بمجرّد أن استيقظت، وقبل حتّى أن تفتح عينيها، قفزت إلى ذهنها كل أفكار الليلة السابقة. صدمتها الأفكار فاستسلمت لها، وراحت تُكرر مرة أخيرة ما قضت حتّى الفجر تقنع نفسها به. "أنتِ بخير .. وستصبحين في حالٍ أحسن .. لا داعي للذكريات .. انتبهي إلى نفسك .. وإلى ميعاد العمل المهم .. تعرفّي إلى أناس جدد .. واخرجي من الدوائر المغلقة التي سُجنتِ فيها كلّ هذه السنين".
فتحت عينيها، ونظرت إلى ألواح مروحة السقف التي تدور فوقها. ركزّت على لوح واحد تتابعه في دوراته، وأغمضت عينيها لتحاول أن تتخيل هذا اللوح وهو يدور في الإتجاه المعاكس. نجحت فيما أرادت، ولكنّها انتبهت إلى سرحانها فوبخّت نفسها "هيّا هيّا .. لدينا الكثير من الأشياء الرائعة لنفعلها اليوم بعيدا عن ألواح المروحة".
وقفت قليلا أمام صورتها في مرآة الحمام. "شكلي هنا مختلف عنه في مرآة الغرفة؛ أكثر قابلية للمس، محسوسا أكثر، ويخصني وحدي. وجه مرآة الغرفة يبدو وكأنّه الصورة المتفق عليها لي .. لكنني لا أحبّها ولا أعرفها". هزّت رأسها بخفّة لتنفض عنها هذه الأفكار. نظرت لعيني المرأة التّي تتطلع إليها في المرآة وقالت بيقين: "أنتِ تستحقين ما هو أفضل". أكملت استعدادها، وفي طريقها إلى خارج البيت تجنبت النظر في المرآة الخارجية بجانب الباب لأنها تجد نفسها فيها سخيفة جدا .. صورة مضببة ومهزوزة وخائفة.
خرجت إلى الشارع، ووقفت قليلا على باب العمارة حتّى يتكيّف ذهنها مع التغيّر المفاجئ. شتاءا وقد تمطر. قالت لنفسها أنّها لو أمطرت ستكون بشرى عظيمة. اتجهت إلى المترو. "عربات المترو مكان غير حميميّ إطلاقا. الناس يتحركون في سرعة، يهربون. جدران العربة من الداخل ملساء ذات لون باهت ولا مساحة فيها لأي تفاصيل. نجلس متقابلين ننظر في وجوه الآخرين .. ونحن متحفزّين ضدهم". أمامها، تجلس فتاة، نظرت إليها فأشاحت الفتاة بوجهها بعيدا .. نظرت في الأرض هنينهة ثم رفعت عينيها إلى الفتاة فجأة فالتقت بعينيها. ابتسمت لها لكنّ الفتاة لم تعر ابتسامتها أي اهتمام. جاءت محطة النزول فتنفسّت أخيرا وخرجت إلى الشوارع مرّة أخرى.
لسعة البرد المُحببة والبرودة في أطراف اليدين. تحك يديها معًا لتدفع ببعض الدفء فيهما. تُحب هذا الإحساس وإن لم تدر ما كنهه. تُحب التحوّل من البرودة للدفء، وتحاول دائما أن تمسك باللحظة الفاصلة بينهما، ولا تفلح أبدًا. "ربما لو أفلحت سيغادرني انتشائي بها". نظرت إلى السماء وتمنّت مرّة أخيرة أن تمطر "مطرًا قويًّا". المطر يكسبها إحساسا بالقوة وسط البشر. يُصبحون جميعا فجأة تحت نفس الظروف. يجعل الناس تقف وتفكّر قليلا، حتّى إن كان في "كيف سنصل للبيت في هذا الجو؟" المطر يُفرح الأطفال ويُنقّي الذهن من أي شوائب فيصبح التفكير خالصًا. تكتسب كل الأشياء معانٍ صامتة ويصير لكل شئ رهبته الخاصّة.. رهبة محببة وطفوليّة. والأهم من كل هذا، المطر يُزيد البرد؛ فيصبح البحث عن الدفء بعده منطقيًا، وليس شاذًا. فكرّت أنّها تفكر كثيرا، ليس هذا ما اتفقت عليه مع نفسها .. ثم أنّها لم تمطر بعد.
وصلت للمكان المُحدد. بدا لها الناس كائنات وهمية. "لا ينتمون لأحد، لمكان .. ولا لأي شئ. لا يمتلكون شيئًأ يحبونه. هذا المقهى غير حقيقي .. مؤقت". وهي بدا لها هذا عصيّا جدّا على الإحتمال فترردت كثيرا قبل أن تدخل وتستقر على كرسي منزو. "كيف يستطيع أحدهم أن يكسب شيئا، يعلم أنّه مؤقت، من روحه؟" طلبت كوبا من الماء المثلّج ومشروبا غازيا. شربت الماء وظلّت تتأمّل الثلج. تضع القليل من المشروب الملوّن على الثلج، وتتأمّل تشرب الثلج بلونه. حتّى يُهيأ لها أن اللون صار لا يُمكن فصله عن الثلج. هل ترتكب جريمة بتلويث الثلج الخالص؟ فكرّت أن النقاء الخالص لا معنًى له. يفتقر للحميمية. ولكن الثلج ليس نقيّا خالصا؛ تكوّن بلوراته أشكالا تختلف من مكعب للآخر. ولكنّه لا يختار هذه الأشكال، تفرضها عليه ظروف معينّة. "ثمّ أن النقاء الذي يمكن تلويثه ليس نقاءً خالصًا". ارتاحت لهذه الفكرة، وانشغل ذهنها في الميعاد المنتظر قليلًا، وعادت لتنتبه للثلج مرّة أخرى. فاجاءها ذوبانه. ذابت الطبقة الخارجية من الثلج التّي اكتسبت لون المشروب وعاد الثلج نقيًا مرّة أخرى. إذن هو لا يمكن تلويثه، ويفعل ما يستطيع من أجل العودة لنقائه. "يُفضّل أن ينتهي نقيّا."
أُلغي الميعاد. جاءتها رسالة يعتذر فيها الشخص بشدة. ويسوق مبررات. وهي تساءلت عن سر تبرير الناس الدائم أفعالهم وتصورهم المستمر أنهم مخطئين عليهم الإعتذار. "ألا يعترف لنفسه بحق أن يحدث له شئ طارئ يمنعه من الحضور؟" قالت لنفسها أن ربما لإنهم يكذبون دوما، لذا فحتّى عندما يصدقوا يسلكوا سلوك الكاذبين.
في الطريق إلى البيت لم تكُن تُفكّر في شئ مُحدد. ولكنّها لاحظت أن الناس جميعا يرتدون ملابس لا يحبونها. ولاحظت أن الناس جميعا أيضا يتجنبّون النظر في وجوه بعض. وأنّهم خائفين ووحيدين.
وقفت قليلا على كوبري مرّت به. الضوضاء فظيعة والإزعاج لا يحتمل. أغمضت عينيها وتركت لخيالها - مستعينة بحاسة السمع فقط – مهمة محاولة خلق إيقاع متناغم بين اهتزازات الكوبري وأصوات مواتير السيارات وأبواقها. راحت تتخيّل نفسها مصدر كل هذا الصخب. تتخيّل نفسها قائد أوركسترا يدير فرقة من المُزعجين عليه أن يجد الخيط الرابط بينهم جميعا ليخرج منهم سيمفونية فريدة من نوعها.
توقفت تماما. أسندت لظهرها لسور الكوبري الحديديّ. وأغمضت عينيها بقوّة وانغمست كُليّة فيما تفعل. كانت تبذل أقصى جُهد ممكن لِتدخل نفسها ضمن المنظومة لتتمكن من تخيّل النغمة القادمة. تحاول التوحّد مع كُل ماحولها من أصوات. نجحت لثانية واحدة فقط. استطاعت فيها أن تتوقع صوت بوق سيّارة متزامنا مع مرور مركب من تحت الكوبري واصطدام الهواء بأشرعته. ولم تنجح على الإطلاق بعدها. يئست من أن تنجح فاستكملت طريقها مُطرقة.
ثم أمطرت السماء. ولكن ليس كما كانت تتمنى. قطرات قليلة سقطت من السماء إلى الأرض. انتبهت لصوت القطرات وهي تلامس سطح الأرض. فوقفت قليلا. فكرّت أن القطرات تسقُط من علو السماء. تنفصل عن ذاتها الأُم الكُليّة في مُحاولة منها لإكتشاف ذاتها الفردية. ثُم تصطددم بالأرض. القطرة التي تصل للأرض تتفتت. تتكسّر. تنقسم إلى ذوات أصغر وأصغر. ذوات مُحطمّة. أزعجها جدّا شكل القطرات وهي تتحطّم. تطاير فتات القطرات آلمها، ولم تدرِ لماذا. فجأة داهمها شُعور الفقد. داهمتها كُل الأحاسيس التّي أجلّت فيها. تحطّم الغلاف الواهي الذي حبست خلفه حُزنها. لم تُمطر بالقدر المُقنع. السماء تلفُظ هذه القطرات فقط. أو رُبما هُم الذين اختاروا الرحيل قبل النُضج. ليتحطمّوا وحيدين على أسفلت شوارع يطئها الناس بأقدامهم. ولا يلتفتون إلى حُطام القطرات. لا أحد يلتفت إلى القطرات. عادت إليها كُل الأحزان المُختزنة. وراحت تركُض في الشوارع تهرب من قطرات المطر التي تُلاحقها. وكُلمّا توقفت قليلا لتلتقط أنفاسها، تُفاجئها قطرات مطر أُخرى. لم تنتبه إلى أنّ القطرات تحولّت مطرا كثيفا مع الوقت لأنها ظلّت تركض وتركض حتّى سقطت من الإعياء.